Monday 29 December 2014

رحلتي مع اللّغة العربيّة


صهيب حسن عبد الغفار

 نشأتُ في بيت يبدأ كبارُه وصغارُه نَهارهم بقراءة كتاب الله، وإن لم يكن للأطفال دراية بمعناه، فالحروف هي من نفس لغتهم (الأردية)، لكنَّ تركيب الجُمل مخالف لما ألفوه في لغتهم. وكان لي حظّ في تعلّم مبادئ اللّغة العربيّة في السّنتين الأخيرتين من الثّانوية وفى السّنة الأولى من الكلّيّة، إلاّ أن هذه الدّراسة كانت هزيلة في مادّتِها، لا تؤهّل الطّالب لقراءة حرّة في غير الكتاب المدرسيّ المقرّر.

مضت السّنة الأولى في الكلّيّة، وإذا الوالد يأمرني بمغادرة الكلّيّة نِهائيًّا لأتفرّغ لدراسة العلوم الإسلاميّة، وأحذو حذوه في تلقّي العلم الشّرعيّ، وأحافظ على تقاليد عائلة "الحسن" المعروفة بالعلم، فقد تلقّى والدي الدّراسة الدّينية في إحدى المدارس الشّهيرة في "دلهي" وهي المدرسة الرّحمانيّة الّتي خرّجت جيلاً من أفاضل العلماء، فقبله درس أبوه في نفس المدرسة، أمّا جدّه فكان من نوابغ العلماء الّذين دافعوا عن السّنّة على صفحات جريدة "ضياء السّنة" الصّادرة من "كلكتا" في بداية القرن العشرين، فكان لزامًا علىّ أن أواصل هذه الرّحلة الّتي بدأها أجدادى في الهند وانتقل بها الوالد إلى باكستان إبّان نشأتها.
كانت المناهج المتبّعة في المدارس العربيّة آنذاك تتبّع منهجًا عقيمًا في تدريس اللّغة العربيّة، إذ كانت الدّراسة قاصرةً على كتب مثل "الكافية" الّتي تجعل الطّالب نحويًّا من دون أن يقدر على كتابة فقرة واحدة سالمة من الخطأ، وتجعله حافظاً للمتون من غير أن يقرأ قراءة صحيحة في جريدة عربيّة. فلذلك اختار لي الوالد، رحمه الله، كتاباً حديثاً في النّحو، سهلاً في أسلوبه، مرنًا في تمارينه، جامعًا لكلمات من العصر الذى كنا نعيشه، هو كتاب "النّحو الواضح" بأجزائه السّتّة.
كان عليّ أن أقرأ على الوالد القاعدة وشرحها، ثُمَّ أكتب جميع التّمارين من أوّلها الى آخرها. وهكذا حبّب إلىّ اللّغة العربيّة وجمع لي مع النّحو والصّرف كتاب البلاغة الواضحة الّتي ألّفت على منوال النّحو الواضح، وأردفها بكتاب القراءة الرّشيدة بأجزائه الأربعة الّتي جمعت بين نصوص أدبيّة نثرًا ونظمًا. وكانت لي بفضل هذا الكتاب جولات فكريّة في مصر، في أرضها وسمائها، في نَهرها وجداولها، في جبالها ووديانِها، وإذا بى أُردّد إلى الآن أبياتًا من هذا الكتاب:
مصر الحبيية لي وطن * وهى الحمى وهى السّكن
وهي الفريدة في الزّمن * وجميع ما فيها حسن
هُبُّوا اعملوا لرقيها * فالجدّ للعليا سَنن
وكان يحبّبُ إلىَّ هذه اللّغةَ بتوفير قصص من أعمال الكيلانيّ، وهى سهلة التّعبير مفعمة بالمعاني، عريقة في تاريخها، تجول بك في غابر الأزمان، وتلتقط لك منه الجواهر الثّمينة، فقد رآني ولوعاً بالقصص والرّوايات، فلا تقع يدي على مثل هذه الكتب باللغة الأرديّة إلا أتيتُ عليها بنهم عجيب وتطلَّع. ولمَّا رآني متمكّنًا بعض الشّيء من قراءة الكتب العربيّة جعل لي هدفًا معيّنًا، وهو الإعداد لدخول اختبار للحصول على شهادة "العالم بالدّراسات العربيّة" الّتي كانت تُشرف عليها جامعة بنجاب ثم بشهادة "الفاضل بالدّراسات العربيّة" وكانت تعدّ أعلى شهادة في مناهج الألسنة الشّرقيّة، وجعل لي سنةً واحدة لكلّ مرحلة وإن كان الطّلاب يحتاجون إلى ضِعف هذه المدّة عادةً حتّى يخوضوا في اختبار كلّ واحدة منها.
وكان منهج كلا المرحلتين يضُمّ أجزاءً تفسيرية ونصوصًا من كتب الحديث الجامعة وشيئًا من الفقه والسّيرة وحكمة التّشريع، بالإضافة إلى التّراث الأدبيّ العربيّ، كالمعلّقات السّبع، وأجزاء من ديوان الحماسة، وديوان المتنبّي، ومختارات من المفضّليّات، و"الوسيط في الأدب العربيّ" وكتاب "أزهار العرب"، من تأليف أحد المستشرقين، وكتاب كليلة ودمنة الشّهير، ومقامات الحريريّ الأدبيّة. وكنت أقرأ بعض هذه الكتب على الوالد وبعضها، كطالب غير متفرغ، في مدرستين من مدارس مدينة "لايل بور" (فيصل آباد حاليًّا)، هما الجامعة السّلفية ودار القرآن والحديث.
وقبيل الاختبار بأيام كنت أحمل بعض هذه الكتب صباحًا حتّى أنتهي إلى حديقة عامّة فأفترش الأرض تحت شجرة من الأشجار فأكبّ على القراءة إلى أن يدفعني الحرّ إلى مغادرة المكان لأعود إليه بعد يوم، ودخلت الاختبار وخرجت منه بأظفر ما كان، إذ كنت الأوّل في كلتا المرحلتين، وذلك عامي 1959 و1960.
وقد شهدتْ هذه الفترة نشاطًا رائعًا قلّما يُرى مثله في مُدن باكستانية أخرى، فقد التحق في الفترة المذكورة عدد من الطّلبة العرب -من العراق والشّام خاصةً- بالكلّيّة الزّراعية، وعلى رأسهم الأخ الفاضل صالح السّامرّائيّ العراقيّ، الّذي كان طالبًا في مادّة الزّراعة، ولكنّه كان يزرع حبّ الدّين واللّغة في كلّ من صادقه وآخاه، فكنت أزوره في مسكنه بالكلّيّة حتّى أتمرّن على التّحدث باللّغة العربيّة، وكلّما رأيت عنده جريدة من جرائد الشّام أو العراق استعرتُها لأقرأها.
ووقفت آنذاك على "جريدة الشّهاب" اللّبنانية، وكان السّيّد صالح يزور الوالد الشّيخ عبد الغفّار حسن وصديقه الحميم الشّيخ عبد الرّحيم أشرف. وقد شَرُفت بالاستماع إلى حديثهم، وقد بدأ الوالد يقيم اجتماعًا شهريًّا باسم (جمعيّة إحياء لغة القرآن الكريم) يشجّع فيه طلبة المدارس العربيّة على إلقاء كلمات باللّغة العربيّة. لم يكن الطّلبة متعوّدين على مثل هذا النّشاط، فكانوا يشاركونه على مضض، يحضرون مرّة ويغيبون مرّات. ولمّا كنت مسئولاً عن عقد هذا الاجتماع، فقد سعيت لتوجيه الدّعوة إلى مشايخ يرتضون هذا العمل، سواءً أكانوا من المدارس العربيّة أم من الكلّيّة الحكوميّة الّتي سبقت لي الدّراسة فيها، وكان الأخ صالح السّامرّائيّ يُتحفنا بحلو حديثه كلّما سنحت له الفرصة بالحضور. وأذكر أنّني التقطت مِن فيه هذا المثل العربيّ في إحدى جلَسات الجمعيّة: "أُكِلت يوم أُكِل الثّور الأبيض".
لم يكن من الجرائد العربيّة في باكستان غير "جريدة العرب" الّتي كان يُصدرها السّيّد عبد المنعم العدويّ، أحد عرب المهجر، والمقيم في كراتشي، وكانت تتحدّث عادةً عن النّشاط الدّبلوماسيّ العربيّ في باكستان، وتسوق كلمات السّادة السّفراء الكرام في محافل دبلوماسيّة أو مناسبات دينيّة، وكنا نستلم آنذاك نشرتين باللّغة العربيّة من كتابة الطّلبة، إحداهما "الرّائد" الصّادرة من ندوة العلماء بلكناؤ، والثّانية "الدّاعي" الصّادرة من مدرسة ديوبند. ولم تكن الكتابة بحروف الرّصاص شائعة، فكانت النّشرتان بخط اليد بحروف ظاهرة بارزة.
وكنت أظفر بجرائد عربيّة أخرى مثل "قافلة الزّيت" الصّادرة من الظّهران، و"دعوة الحقّ" الصّادرة من الرّباط، ونشرات عربيّة بدأت تأتي من السّفارة الأمريكيّة باسم الجامعة الّتي أنشأها الحكيم عبد الرّحيم أشرف مع الوالد، وهي "جامعة تعليمات إسلاميّة" فكان لي الحظّ الأوفر من قراءة هذه الجرائد، يوم كان همُّ طلبة المدارس العربيّة مصروفًا لدراسة المتون المقرّرة، وكانوا يرون عملنا هذا عبثًا لا طائل تحته.
وما أنس فلا أنس جهود الأخ "محمّد بشير سيالكوتي" الذي حُبّبت إليه اللّغة العربيّة كما حبّبت إليّ، والّذي لا يزال يحمل علم هذه اللّغة في باكستان مع وعورة الطّريق وقلّة الأنصار وضيق المرافق. فقد بدأ يصدر منذ عدّة سنوات جريدة "نداء الاسلام" الّتي أثبتت جدارتَها وحظيت باحترام العلماء والأساتذة، ولكنّها لم تستطع أن تواصل المسير لظروف مادّية حالت دون استمرار صدورها. وكذلك جهود الأخ زاهد أشرف ابن الحكيم عبد الرّحيم أشرف، الّذي حمل راية الجامعة المذكورة بعد وفاة والده وحافظ على السّمعة الطّيبة الّتي كانت تتمتع بها هذه الجامعة منذ نشأتها، وخاصةً في مجال ترويج اللّغة العربيّة.
وشجّعني الوالد على ترجمة كتاب "مذكّرات الدّعوة والدّاعية"، للشّيخ البنّا، وكتاب "تذكرة الدّعاة"، لبهيّ الخولي، إلى اللغة الأرديّة، فكنت أقتطع من أوقاتي -مع إعداد للاختبارات المذكورة- لأقوم بالتّرجمة يوميًّا، حتّى أكملت الكتابين، ونشرت أجزاء من الكتاب الأوّل على صفحات جريدة "المنبر" الّتي كان يترأّسها الحكيم عبدالرّحيم أشرف، أما الكتاب الثّاني فراحت ترجمته طيّ النّسيان، ولا أدري هل ضاعت مسوّدتُها بين رفوف مكتب الجريدة أم أكلتها الأرَضة.
أذكر ذلك اليوم، وكانت "جامعة تعليمات إسلاميّة" في بداية أمرها، ليس لها بناية ولا عمارة، وإنما كانت عبارةً عن فصلٍ واحدٍ أرتاده أنا مع طالب أو طالبين في النّهار، ويرتاده مجموعة من الكبار لدراسة اللّغة العربيّة مساءً، وكان اليوم يومًا عزيزًا في تاريخ الجامعة، إذ ورد في المدينة عالم من جلّة علماء الهند النّاطقين بلغة الضّادّ كأهلها، وهو الشّيخ أبو الحسن النّدوي، فدعته الجامعة ودعت وجهاء مدينة "لايل بور" بهذه المناسبة فكانت حفلة مشوِّقة أتيحت لي فيها فرصة إلقاء كلمة التّرحيب، وتكلّم فيها الشّيخ النّدوي فأفاد وأجاد. ولّما رأى منّي حرصًا على اللّغة دعاني إلى مكان إقامته، وكان يزور شيخًا من شيوخ الطّريقة في البلد، وأملى عليّ مقالاً أراد أن يدفع به إلى بعض الجرائد، وحفظت من إملائه ذلك اليوم هذا البيت:
وعقاب لبنانٍ وكيف بقطعها * وهو الشّتاءُ وصيفُهنَّ شتاءُ
ووقعت في يدي آنذاك إحدى روايات جرحي زيدان، فأعجبني سرد كلامه، فقرأتُها على طول محتواها وقلّة مغزاها، ووجدت عند بعض المشايخ مجلّدات من جريدة "الهلال" المصريّة فكنت أنظر اليها بشغفٍ، واستعيرها من الشّيخ ثم أردّها إليه لآخذ المزيد. وأسفت على قطع دراستي بالكلّيّة الحكوميّة يوم أن أمرني الوالد بتركها، ولكن بعد أن حصلت على شهادتي "العالم والفاضل" أتيحت لي فرصة لأن أدرس بنفسي منهج الكلّيّة (وهو منهج جامعة بنجاب أصلاً) في مادّة اللّغة الانجليزيّة لكلّ من مرحلة "الثّانوية العليا" و"البكالوريوس" حتّى أدخل في اختبار الجامعة لكلتا المرحلتين فاظفر بشهادة "البكالوريوس" في آداب اللّغة الإنجليزية بعد سنتين.
وكنت خلال هذين العامين (1961-1962) أقوم بتدريس اللّغة العربيّة في مدرسة ثانويّة أوّلاً، ثم في معهد خاصّ فتحه أحد الأفاضل الكرام (هو الدّكتور إسرار أحمد) باسم "دار القرآن" في مدينة "ساهي وال" أراد أن يجمع فيه بين الدّراستين: دراسة المناهج الحكوميّة، وذلك بطريق التحاق الطّلبة بالكلّيّة الحكوميّة، ودراسة اللّغة العربيّة كدراسة خاصّة بين جدران الدّار على يديّ، ومن المؤسف أنْ لم يلتحق بِهذه الدّار إلاّ أربعة طلاّب، كان من بينهم شقيقه الصّغير، أبصار أحمد، الّذى حاز على شهادة الدّكتوراه فيما بعد من إحدى جامعات بريطانيا.
ولم أنقطع خلال هذه الفترة عن طلب العلم، فكنت أواظب على حضور بعض الدّروس في أصول الفقه وعلم الكلام على أساتذه أفاضل في "جامعة رشيديّة" بنفس البلدة. وقد رأيت أنّنى، بعد انقطاعى عن الكلّيّة الحكوميّة عام 1958 إلى منتصف عام 1962م، قضيت أربعة أعوام كاملة وشغلي الشّاغل هو اللّغة العربيّة وآدابُها وقراءة كتب السّنّة وشروحها مع تعريج على التّفسير والفقه وغيرها من العلوم حسب مقتضيات المنهج، غير أنّنى كنت أشعر بخواءٍ في طلبي للعلم، إذ كان معظم دراستي على الوالد وعدد من المشايخ الآخرين دون أن تكون هناك دراسة منتظمة في جامعة من الجامعات.
وكنت أجد نفسي كثيراً ما أناطح معضلات اللّغة ومغاليق المتون فأفتحها بمعاجم اللّغة أو شروح الشّرّاح، فكنت أودّ لو كانت لي فرصة الالتحاق بمعهد من المعاهد كطالب منتظم. وجاءت هذه الفرصة أخيرًا، وما أجملها فرصة! أنشئت الجامعة الإسلاميّة بالمدينة المنوّرة عام 1961م، وبدأت تستقبل الطّلاّب من أنحاء العالم وجاءت الدّعوة مفتوحة إلى عدد من المشائخ في باكستان لترشيح عدد من الطّلاب. وكان الوالد على اتّصال بالشّيخ السّيّد داؤد غزنوى، أحد أساطين أهل الحديث في باكستان، فرشّح اسمى لأكون من روّاد طلبة العلم الباكستانيّين بالجامعة، وما إن عرفت بالبُشرى السّارّة حتّى توجّهت إلى "كراتشى" عاصمة البلاد آنذاك أعدّ أهبتى للسَّفر، فكان لي آنذاك أوّل جواز أراه في حياتي، وأوّل سفارة عربية أزورها، وأوّل رحلة بحريّة أقوم بها مع سبعة عشر طالبًا آخرين على متن سفينة الحجّاج، وكانت أكبرَ باخرة لنقل المسافرين تلك الأيّام.
حملت الباخرة خمسة آلاف من الحجّاج الباكستانيّين وعادت بهم من ميناء جدّه إلى ميناء كراتشى، وكانت تعتزم العودة إلى المملكة لترجع بالمزيد من الحجّاج. واستغلَّ السّفير السّعودى وجود الباخرة راسية في الميناء فقطع لنا التّذاكر عليها، فكانت لنا فرصة أخرى ما كنا نحلم بِها، وهى أن نصل إلى أرض الحجاز بعد طول انتظار، يحدونا شوق ورغبة، وتحفزنا تطلّعات وآمال، ونحن نرنو بعيون مترقّبة لرؤية أرض التقى فيها المصطفى من الملائكة بالمصطفى من البشر، وآذاننا مرهفة لسماع تلك اللّغة الّتي عشقناها وألفناها منذ نعومة أظفارنا بلسان أهلها.
أتانى هواها قبل أن أعرف الهوى * فصادف قلبًا فارغا فتمكَّنا
ودّعتُ الوالد والأشقّاء وأنا ألوّح لهم بيدى من فوق أحد طوابق الباخرة وهم وقوفٌ على الميناء يرونَها تبتعدُ رويدًا رويدًا من السّاحل، حتّى لم أعد أراهم. وبقيت مع أصحاب أتعرّف عليهم لأوّل مرّة، وكنت أرى نفسى أصغر القوم، ولم يكن بالباخرة إلا نحن، المجموعةَ الأولى من الطّلاب، مع طاقم الباخرة وشابّ إندونيسى وحيد من غير بنى جلدتنا كُنَّا نحاول أن نتعرّف عليه فيحول بيننا وبينه عائق اللّغة، وكانت عنده كلمات من اللّغة العربيّة فكان حديثنا معه كالتّالى:
- من أين أنت؟
- إندونيسيا.
- كيف حال المسلمين في إندونيسيا؟
- في مساجد كثيرة والحمد لله، في مدارس كثيرة والحمد لله، في سينما كثير والحمد لله.
وبقيت الباخرة تمخر عباب البحر وتصارع الأمواج، وكان الشّهر شهر يوليو، وكنّا في عزّ الصّيف، حين يواجه البحر الهندى تلاطمًا هائلاً وهيجانًا ثائرًا يجعل هذه الباخرة العظيمة تبدو كدُمية تافهة بلا حولٍ ولا قوّة، وبدأنا نشتاق إلى رؤية الأرض وقد مرَّت علينا خمسة أيّام، وإذا بنا نقترب من ساحل اليمن حتّى رست الباخرة في ظهيرة يوم بميناء عدن، المحميّة البريطانيّة آنذاك، وها هى أوّل مرّة تقرع أسماعنا أصواتٌ عربيّة من بلد عربيّ عريق في عروبته، أصيل في لغته، ويسمح لنا أن ندور دورةً في البلد، فنزلنا في قارب صغير قرّبنا من الميناء حيث ركبنا الحافلة، مرورًا بالجبال والوديان إلى وسط المدينة الّتي استقبلتنا بواجهات المتاجر، مكتوب عليها بالعربيّة، وصيحات وصراخ باللّهجة اليمنيّة، فكنّا نستغرب كلّ شيء يقع عليه بصرنا، فلكلّ جديد لذّة، فكيف إذا كان حُلمًا يتحقّق، أو أمنيّةً تنقلب حقيقة؟
واصلنا رحلتنا ليومين آخرين، وصَحِبَنَا السّاحل الغربيّ طول هذه الرّحلة حتّى قيل لنا إننا كدنا نقترب من موضعٍ يقال له يلملم، وهو ميقات أهل اليمن، فأحرمنا للعمرة ولبّينا لأوّل مرّة في حياتنا. نزلنا في ميناء جدّة ونحن في شوق وغرام وتلهّف للبقاع المقدّسة، واستقبلنا مندوب الجامعة السّيّد اللّنجاويّ، هذا الرّجل الكريم الوادع المجامل الذى ترك علينا جميعًا انطباعًا جميلاً للكرم العربيّ والمعاملة الحسنة.
أدّينا شعائر العمرة، وحظنيا برؤية بيت الله الحرام والطّواف حوله والسّعي بين الصّفا والمروة، وشربنا من ماء زمزم، وكان عليه بناء مرتفع يدخل فيه الدّاخل ويقف على الحائط المحيط بالبئر فَيُطلّ فيه ليقع بصرُه على غوره فيَرى الماءَ يلمع تحته. كانت تجربة فريدة في الحياة، لا يمرّ بها زائر اليوم، فقد اختفت البئر تحت أرض المطاف، ولم يَعُدْ يُرى ماؤها إلاّ خارجًا من الصّنابير. ولم يكن آنذاك من البناء الحديث إلا توسعة الملك سعود بن عبد العزيز، فكنّا نخرج من باب الملك سعود لندخل في أزقّةٍ ضيّقة تكتنفها البيوت والمتاجر، فمنها ما يذهب بنا إلى الجياد، ومنها ما يدفعنا إلى المسفلة أو السّوق، وكلّها تلاشت الآن لتنقلب إلى ساحة واسعة شاسعة ازدانت بأحدث العمائر والأبراج من جميع الأطراف. ولا يمكن لزائر اليوم أن يتخيّل الأجواء خارج البيت الحرام في ذلك الوقت إلا إذا زار مدينة القُدس وحام حول المسجد الأقصى المبارك.
وبعد أن تمّت الزّيارة والعُمرة اتجهنا إلى مدينة المصطفى لتكون لنا مقرًّا ومسكنًا للسّنوات الأربع القادمة. دخلنا الجامعة في مبناها القديم، وكانت عبارة عن بيوت وشقق، أو بالأحرى ثكنات للجيش في وقت من الأوقات، بعيدًا عن المدينة نفسها. وقد وصلنا إليها في عطلة الصّيف، إذ خلت المبانى من الطّلاب، ولم يكن فيها إلاّ نخبة من موظفي الجامعة، وكان على رأسهم الشّيخ عبد الله الزّائد الّذى استقبلنا استقبالاًً حارًّا، وأكرم وفادتنا، وخصّص لنا مخادعنا بعد استضافتنا ثلاثة أيّام في فندق قريب من المسجد النّبوى. ورحَّب بنا في اليوم التّالي الشّيخ عبد العزيز بن باز وأمينه العام الشّيخ محمّد ناصر العبُودى والقائم بشؤون التّعليم الشّيخ عطيه محمّد سالم، فكان لقاءًا مبدئيًّا، ولكن فتح لنا معهم صلة وُدّيّة أخويّة لا أزال أشعر بحلاوتها.
وكان علينا أن نقضى بقيّة أيّام الإجازة نُعِدُّ لاختبار القبول، فأعطينا كتبًا في اللّغة وأخرى في العقيدة، أذكر منها "قطر النّدى" في النّحو، وكتاب "التّوحيد" في العقيدة، وجاء يوم الاختبار وطلب منّا الشّيخ عطيّة محمّد سالم إنشاء مقال، وأذكر أنّنى كتبت مقالاً في سقوط الخلافة العثمانيّة وحالة الأمّة المسلمة بعدها، وجاءت النّتيجة لأكون أحد الثّمانية الّذين وقع عليهم الاختيار ليلتحقوا بالدّراسات العليا في كلّيّة الشّريعة، الكلّيّة الوحيدة الّتي فتحت بها الجامعة أبوابها، أمّا إخواننا الاثنا عشر الباقون فالتحقوا بالقسم الثّانويّ.
إنّنى سعيد بأن أقول: كان لنا حظٌّ كبيرٌ من التّتلمذ على كوكبة من الأساتذة الّذين ازدانت بوجودهم الجامعة فكانوا ألمع مَنْ طَلع في سماء فقه الدّين بجميع أبوابه، وآداب اللّغة بجميع مشاربها. حضرتُ كلمات الدّاعية المربّى للأجيال الشّيخ ابن باز في مجلسه ومسجده، في المجاميع والنّدوات، ومجالس توعية الحجّ والزّيارات، فوجدته خيرَ مرُبّ وخير مرشدٍ، سمحًا لطيفًا في معاملته، سخيًّا جوادًا في عطائه، كريمًا خيّرًا لزّوّاره، متواضعًا حليمًا، رفع الله شأنه في الدّنيا، وأرجو أن يُحشر مع الأنبياء والصّديقين والشّهداء والصّالحين في الآخرة. واستفدت من دروس التّفسير والنّحو للمفسّر الأصوليّ الكبير، الشّيخ محمّد أمين الشّنقيطيّ الّذي إذا استرسل في الكلام جاء بنوادر الأقاويل من التّفسير والأصول، وعرّج على بدائع الاستشهاد من ألفيّة ابن مالك وألفيّة العراقيّ وغيرهم من أساطين اللّغة والأدب.
وأذكر أنّ رئيس جامعة في طهران زار فصلنا أيّام الحجّ، وكان الدّرس درس الشّيخ، فاستمع إلى آخره ثم طلب منه الشّيخ كلمةً موجزة فقال: أيّها الشّيخ، حضرت درسك اليوم فلم أر قبلك شيخًا هو مثل ابن جرير في التّفسير، أو البخاريّ في الحديث، أو سيبويه في النّحو، أو ابن الهمام في الفقه، فللّه درّك! واستمع الشّيخ إلى كلمته، فلمّا انتهى، لم يزد على أن قال: إيش يقول؟
ولازمت دروس الشّيخ محمّد ناصر الدّين الألبانى فرأيت جدّه واجتهاده ومثابرته على الدّرس وتواضعه الجمّ مع الطّلبة عندما يفترش الحصبة أمام الفصل أثناء فترة الرّاحة بين الدّرسين ليجيب على أسئلتهم ويشفي غليلهم. ورأيت شيخنا الفاضل المصريّ الأصل النّجديّ المآل، الأستاذ عبد القادر شيبة الحمد وهو يدرّسنا الحديث بعد رحيل الشّيخ الألبانيّ، فيأتى بفصيح الكلام، وكأنه يخطب خطبةً في الأنام، فيجول ويصول ويبدع ويفيد. وأخذنا دروسًا في التّوحيد على يد الشّيخ الوقور، عبد المحسن حمد العبّاد، الّذى كان يحوم حول العقيدة الطّحاوية كأنّه يحفظها بمتـنها وشرحها، فيشرحها بميسور القول، بإسهاب مرةً وإيجاز أخرى.
وقد لحق والدى الشّيخ عَبدُ الغفَّارحَسَن كمدرّس للحديث وأصوله بعد مضىّ سنتين من الدّراسة فتولّى درس أصول الحديث لفصلنا، ثم أضيف إليه مادّة جديدة، هى مادّة الأسانيد، فتجدّد لي لقاؤه والقراءة عليه، وجاء معه الشّيخ الحافظ محمّد غوندلويّ من باكستان أيضًا، وهو علّامة في الحديث، يشار إليه بالبنان في روايته للبخاريّ وشرحه فتح الباري، ولم يكن لي حظٌّ من الدّراسة عليه إلا قليلاً لأنه عيّن في الفصل الّذى يعلونا بسنة.
وكان الأديب الألمعيّ الشّيخ محمّد المجذوب، صاحبُ التّآليف والمقالات الماتعة، أستاذَنا في الأدب والتّاريخ، وكانت لغته بحرًا زاخرًا يعجّ بالدّرر واللآلئ، فأفادنى أسلوبه السّلس وكتابته الرّشيقة، كأنّه هو والسّيّد عليّ الطّنطاويّ ينهلان من عين واحدة؛ أدركتُ أوّلهما في الفصل، وثانيَهما في ثنايا الكتب وعبر إذاعة القرآن الكريم.
وأعجبني النَّحويّ البارع الأستاذ عبد الرّؤوف اللَّبديّ المصريّ الَّذى تولَّى تدريس الألفيّة فحبّبها إلينا وهو يحلّ معضلاتِها ويشرح أبياتِها بأسلوب فذّ وعناية تامّة. وكان يكتب في مجلّة الجامعة بعنوان "رسائل لم يحملها البريد" فكانت مقالاته رائعة تستهوى القرّاء وتحوز على إعجابهم.
وكان لي حظّ من دروس الشّيخ الشّابّ نور الدّين العتر من الشّام، والدّاعية المفضال الشّيخ محمّد إبراهيم شقره من الأردن، والفقية الفاضل الدّكتور عمر سليمان الأشقر، والشّاب المحدّث الدّكتور محمّد الطّحّان، هولاء ممّن درست عليهم في الفصول. وهناك من استفدت منهم إمَّا في رحاب المسجد النّبويّ مثل الشّيخ عمر فلاتة، والشّيخ محمّد جابر الجزائريّ، والشّيخ محمّد مختار الشّنقيطيّ، والشّيخ حمّاد الأنصاريّ، والدّكتور تقيّ الدّين الهلاليّ، أو من طريق الصّحبة في الرّحلات والأسفار، كالشّيخ محمّد عبد الوهّاب البنَّاء المصريّ الَّذى شجّعنى وغيرى من الطّلبة على إلقاء الكلمات على الحجّاج في مساجد مكّه والمدينة، والشّيخ محمّد أمان الجامى والشّيخ سعد ندا، وغيرهم ممن لا تحضرني أسماؤهم.
وأتاحت لنا فرصة الموسم لقاء عدد من رموز العلم والأدب من العالم الإسلاميّ، كالدّكتور مصطفى السّباعيّ الذى رأيتُه في دار الحديث وهو مستلقٍ على الفراش بسبب مرض عضال ألَمَّ برجله، والشّيخ محمّد أبي زهرة، والشّيخ مناع القطّان، والشّيخ أمجد الزّهاويّ، والشّيخ محمّد محمود الصّوّاف، الّذى كان لي شرف ترجمة كلامه إلى اللّغة الأرديّة فيما بعدُ في حياتى العمليّة في شرق أفريقيا، والشّيخ محمّد قطب، والدّكتور محمّد الرّاوي، والشّيخ عبد الله القلقيليّ، مفتي الأردنّ، وكثير غيرهم، لا أستحضر أسماءَهم، ولكنَّهم دائمًا في بالي، أترحّم على من لحق منهم بالرّفيق الأعلى، وأدعو لمن بقي منهم على قيد الحياة.
ولم يكن المنهج الدّراسى ليصرفنى عن متابعة الأدباء والكُتّاب الّذين كانت لهم قصبة السّبق في هذا المجال، فاستهوانى "الوعد الحق"، و"الأيّام"، و"على هامش السّيرة"، لطه حسين، و"وحى القلم" للرّافعى، و"الوحى المحمّدى" لرشيد رضا، وكثير من كتب المنفلوطيّ ومحبّ الدّين الخطيب. كما كنت أتابع مجلّات مثل "حضارة الإسلام" و"المنهل" و"العربيّ" الّتي بدأت تصدر من الكويت أيّام طلبي للعلم. واقتنيت كتاب "المستطرف في كلّ فنّ مستظرف" و"العقد الفريد"، وإن لم تكن كتبًا منهجيّة، غير أنّه بقي بيني وبين "الأغاني" حاجزٌ منيع، فلم أفتحه إلا سرًّا، ولم أزره إلاّ غبًّا.
وقد شغلت الدّراسة جميع وقتي، فلم أجد وقتًا لكتابة المقالات، غير أنّى لم أتمالك نفسى عندما قرأت مقالاً فاجعًا عن أهل كشمير ومعاناتهم في جريدة أرديّة، فأمسكت بالقلم وترجمته إلى اللّغة العربيّة وأرسلته إلى جريدة "الشّهاب" الصّادرة من لبنان، وكان بعنوان (سُرج من دماءٍ)، وكم كان فرحي عندما رأيته منشورًا في عدد من أعدادها.
وتخرّجت في صيف عام 1966م، ودخلتُ الحياة عمليًّا عندما قبلتني دار الافتاء السّعودية برئاسة الشّيخ محمّد إبراهيم آل الشّيخ في أوّل بعثة دعويّة ابتعثت إلى شرق أفريقيا لتعليم النّاشئة ونشر كلمة الإسلام في ربوعها. وللحديث عن هذه الفترة المقبلة في حياتي موعدٌ آخر إن شاء الله، فإلى لقاء. والسّلام.

No comments:

Post a Comment